الدكتور سيف الإسلام القذافي يكتب: الدور الكردي في لعبة القوى الإقليمية: فرص وتحديات

نشر المرشح الرئاسي الأوفر حظا الدكتور سيف الإسلام القذافي، مقال بعنوان الدور الكردي في لعبة القوى الإقليمية: فرص وتحديات

{قَالُوا هَذَا عَارِضِ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ}
لأكثر من ألف عام كانت منطقة الشرق الأوسط الكبير “الشام والعراق والجزيرة العربية ومصر وشمال إفريقيا تحت حكم الدولة الأموية أو العباسية أو الخلافة العثمانية لاحقاً، أي أنها كانت دائما جزء من إمبراطورية كبيرة مسيطرة.
بعد الحرب العالمية الأولى، وتفكك الإمبراطورية العثمانية، قامت كل قومية بتأسيس دولتها الخاصة أو كياناتها السياسية المتعددة. لم يعد هناك مثلاً إقليم الأناضول التابع لخلافة كبرى، بل حلت محله الجمهورية التركية كدولة مستقلة للقومية التركية. ولم يعد هناك ما يسمى “بلاد الشام” و”بلاد الرافدين” و”الجزيرة العربية” و “شمال إفريقيا” بل توزعت هذه الجغرافيا بين عدة دول تنتمي في مجموعها للقومية العربية، وصارت تضم دولاً عربية مستقلة لشعوب عربية متعددة.
الشعب الوحيد الذي بقي بلا دولة هو الشعب الكردي، والقومية الكردية هي القومية الوحيدة التي ظُلمت ولم تحصل على كيان سياسي متكامل لها. تم هذا على الرغم من أن الأكراد شعب ذو هوية ولغة وقومية خاصة بهم. لقد جرى تقسيمهم وتوزيعهم بين أراض تابعة لدول العراق وسوريا وتركيا وإيران.
عبر عقود من الزمن أكد القائد الشهيد معمر القذافي أن الأكراد شعب مظلوم، وقومية مشتتة، وإنه من الناحية الأخلاقية والإنصاف التاريخي، يجب أن تكون لهم دولة خاصة بهم.
ولكننا اليوم نرى أن ما تسمى “إسرائيل” بدأت تدعم القضية الكردية سياسياً وميدانياً. ليس هذا حباً في الشعب الكردي أو انحيازاً لقضيته الإنسانية، بل نكاية في العرب باعتبارهم العدو الأساسي للكيان الإسرائيلي. ويستهدف الكيان الإسرائيلي، في دعمه للأكراد، دولة العراق بالذات لأنها تشكل الرادع الأكبر له.
العراق يملك حدوداً واسعة واستراتيجية مع بلدان الطوق في سوريا والأردن، وجيشه ساهم مساهمة فعالة في كل المواجهات الحربية مع جيش الكيان، وقدم دعماً متواصلاً للجبهات المصرية والسورية بالذات.
وبعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1977 تم إخراج مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، فوجهت إسرائيل جهودها نحو عزل العراق وإشغال جيشه بالصراعات الداخلية لإلهائه عن دوره القومي. ركزت إسرائيل حينها على دعم الأكراد في شمال العراق متعاونة في ذلك مع إيران الشاه.
وفي عام 2025 تعود إسرائيل لتلعب نفس اللعبة التي لعبتها في العراق، ولكن هذه المرة في سوريا. تسعى إسرائيل إلى التأثير على الولايات المتحدة لدعم استقلال الأكراد في سوريا، أو منحهم على الأقل حكماً ذاتياً مشابهاً لكردستان العراق. يهدف هذا طبعاً إلى تقسيم الدولة السورية، وتفكيكها، وإضعافها سياسياً وسيادياً لضمان أن لا تشكل سوريا خطراً مستقبلياً عليها.
إذًا وبتخطيط من دولة الكيان، سيطر أكراد العراق على إقليم كردستان كشبه دولة مستقلة لهم، والآن قد يحصلون على دولة لهم في سوريا أيضاً. فلا مناص ساعتها من احتمال قيام دولة كردية ثالثة في تركيا.
كيف ذلك؟
لنتذكر أولاً أن عدد الأكراد في تركيا يتجاوز الـ 15 مليون، وهم بذلك يشكلون خُمس سكان تركيا ويتركزون في جنوب شرق البلاد بالذات. علينا عندها أن نستوعب أن تركيا قد يتم دفعها لأسباب سياسية واستراتيجية عديدة لأن تشهد أحداثاً مشابهة لأحداث العراق وسوريا.
الكيان الإسرائيلي يخشى استراتيجياً من اقتراب دولة كبرى كتركيا من حدوده. إذا ما سقطت قوات سوريا الديمقراطية وخرج الأكراد من معادلة القوى السياسية في سوريا، فإن الأتراك سيملؤون الفراغ الناتج من هذا، ويتغلغلون في عمق الجغرافيا السورية نحو الحدود مع الكيان الإسرائيلي.
الوضع الحالي في سوريا يفصح عن سيطرة تركية واضحة في مفاصل الدولة السورية الجديدة، مما يشكل قلقاً عند الإسرائيليين. تاريخياً، فإن من يحكم اسطنبول العثمانية، أو القسطنطينية في العهد البيزنطي، يحكم دمشق بالضرورة، أو ينظر إليها على أنها مدينته الكبرى الثانية. اشتباك التاريخ والجغرافيا بين دمشق واسطنبول تؤكده اليوم تصريحات المسؤولين الأتراك التي تعلن عن اهتمام وانشغال الحكومة التركية بتفاصيل المشهد السياسي السوري.
من هذه التصريحات الرسمية تلك التي تؤكد أن تركيا ستحمي الأقليات العرقية والدينية في سوريا، فأين سيادة الدولة السورية على أراضيها وقوانينها وسياساتها الداخلية؟
هذا يعيد سوريا إلى النفوذ العثماني التاريخي، وهو أمر لن تقبل به إسرائيل بأي حال، مما يعني أن الدور القادم قد يكون على تركيا حتى يتم إلهاؤها عن الاقتراب من حدود إسرائيل.
ما جرى في سوريا إذن يشبه إطلاق شيطان من قمقمه، إذ كان الهدف تحقيق نتيجة محددة، لكن التداعيات قد تكون مختلفة تمامًا، بل وقد تتسبب بأضرار للدول التي دعمت التغيير في سوريا.
ما بدأ في سوريا لم ينته بعد، فالقضية ليست فقط في إسقاط حكم البعث، بل هي بداية لأحداث أكبر وأخطر ستشهدها المنطقة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
التاريخ يعيد نفسه.
لم يتوقع جورج بوش، ومعه بنیامین نتنياهو والصقور في اللوبي اليهودي الأمريكي، أن احتلالهم للعراق سنة 2003 سيؤدي في النهاية إلى تسليمها، بشعبها ونفطها، إلى عدوهم اللدود إيران. ولم يخطر أيضاً ببال نيكولا ساركوزي أن تدميره لليبيا سنة 2011 سيفتح الباب أمام الأتراك، أعداء فرنسا التاريخيين. كما لم يتخيل ديفيد كاميرون أن مشاركته في تدمير ليبيا ستجلب الروس، خصوم بريطانيا التاريخيين، إلى عمق المشهد الليبي. هذه هي حروب العصر؛ حين تنطلق خيولها، لا يمكن التنبؤ بالاتجاه الذي ستجر العربة إليه.
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}.

Exit mobile version