حرب الأبراج والتزوير الإعلامي… استراتيجية صهيونية جديدة لكسر الإرادة الفلسطينية

مفجعة هي الأنباء الواردة كل ساعة من غزة، فالهجمة الصهيونية التترية مغايرة في وحشيتها عن كل الحروب التي سبقتها، والغالبية العظمى من الأهداف مدنية، والتخبط الإسرائيلي وصل أوجه، وتترجمه تل أبيب إلى قصف عشوائي لا يرحم، بعد أن فرغت من تدمير بنك أهدافها المزعوم.

وصباح اليوم، دمرت قوات الاحتلال برج الجلاء في مدينة غزة، والذي كان يضم مكاتب العديد من وسائل الإعلام الدولية والمحلية، حيث انهار المبنى المؤلف من 11 طابقا بالكامل نتيجة لقصفه من قبل سلاح الجو الإسرائيلي، تاركا 60 عائلة في العراء دون مأوى.

كان المبنى يضم كذلك عددا من الشقق السكنية ومكاتب وسائل إعلام دولية ومحلية متعددة، منها شبكة “الجزيرة” ووكالة “أسوشيتد برس”، بالإضافة إلى مكاتب محامين، فما هو الخطر أو التهديد الذي يمكن أن تمثله مكاتب وسائل إعلام أو مكاتب محامين لكي تتم مساواتها بالأرض.

لم يكن برج الجلاء هو الأول الذي يطاله القصف الصهيوني الغاشم، فقد دمرت إسرائيل عدة أبراج في غزة منذ بداية التصعيد العسكري الحالي حول قطاع غزة مطلع الأسبوع الماضي، كان آخرها “برج الشروق” الشهير ذي الـ 14 طابقا وسط مدينة غزة، والذي كان يضم أيضا مكاتب لعدد من الصحف المحلية ووكالات الأنباء العالمية، بما يمكن أن نسميه “حرب الأبراج”

ولمحاولة تفسير سلوك المحتل الصهيوني وإقدامه على تدمير الأبراج بشكل ممنهج، نشير إلى أن أول مرة أقدمت إسرائيل على هذا الفعل كانت في عام 2014، عندما دمرت برج “الظافر 4” ذي الـ 14 طابقا، قبل أن يُعاد بناؤه بدعم قطري عام 2017.

وفي عام 2015، دمرت إسرائيل برج “الباشا” ذي الـ15 طابقاً، و”برج المجمع الإيطالي” ذي الـ17 طابقاً.

ويرى الباحث والمحلل السياسي الفلسطيني، ياسر أبو معيلق، أنه “في العادة، كان الطيران الحربي الإسرائيلي يقصف شققاً بعينها أو مكاتب ضمن البرج، ولكنه اتجه في السنوات الماضية إلى تسوية الأبراج بأكملها، وذلك لسببين: الأول، أن الأبراج السكنية في قطاع غزة ظهرت مع مجيء السلطة الفلسطينية، وكانت تلبية للحاجة الكبيرة للسكن لدى سكان القطاع والعائدين إليه مع السلطة. وبسبب مساحة القطاع الضيقة، كان التوسع العمودي هو أفضل الحلول لاستيعاب كل هذا العدد من البشر. هذه الأبراج تسكنها عائلات الطبقة المتوسطة وميسورة الحال في غزة، وبالتالي، فإن تسويتها بالأرض من قبل إسرائيل لا يعني فقط تشريد عشرات العائلات الغزيّة ودخولها في دوامة البحث عن مأوى جديد، بل وينسف كل ما تملكه تلك العائلات في أقل من ساعة، ويطيح بها من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة المعتمدة على المعونات.

أما السبب الثاني، فهو أن الأبراج مشاريع كبيرة ومكلفة، وتدميرها يحدث ضرراً مادياً أكبر من قصف عدة منازل أو منشآت مجتمعة، وتسعى إسرائيل في هذه الحرب إلى تحميل حركة حماس (المسيطرة على قطاع غزة) أغلى فاتورة ممكنة في حربها عليها.

وأضاف أبو معيلق: “هذان السببان تحاول إسرائيل من خلالهما زيادة حالة الغضب والسخط الشعبيين على حركة حماس في القطاع، من خلال الخسائر الاقتصادية الكبيرة، وحالة التشريد التي تتعرض لها عشرات العائلات، ولهذا باتت تركز ضرباتها الجوية (بالإضافة إلى اغتيالات قيادات الحركة العسكرية) على الأبراج السكنية والمختلطة (سكني/تجاري).

فيما رأى خبراء عسكريين، أنه على الرغم من الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالجانب الفلسطيني، إلا أن نجاح المقاومة في قصف أهداف استراتيجية محددة، وفشل منظومة “القبة الحديدية” في التصدي للصواريخ، وهي المنظومة التي طالما روجت لها القيادات الصهيونية ومنظومة الإعلام الدولي، أربك حسابات إسرائيل، ودفعها لأن تكون أكثر تخبطا، وأكثر ضراوة ووحشية، في محاولة لحفظ ماء وجهها، والإبقاء على هيبتها التي أوشكت على التلاشي.

وبخلاف استراتيجية تدمير الأبراج، انتهجت إسرائيل نهجا إعلاميا يعتمد على التزييف والتزوير، لكن افتضاح أمرها مرة تلو الأخرى دفع وسائل الإعلام إلى التدقيق مهما كان المستوى الصادرة عنه التصريحات

فأخبار “الخدعة” التي قامت بها إسرائيل لوسائل الإعلام الدولية، بعد أن أوهمتها بأنها بدأت الحرب البرية على غزة، ليتبين فيما بعد أن الأخبار الإسرائيلية جاءت من قيادة الأركان لتضليل المقاتلين الفلسطينيين في قطاع غزة ودفعهم إلى مواقع دفاعية، ومن ثم ضربهم لإحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوفهم.

هذا “التلاعب” بالإعلام الدولي ليس الأول في تاريخ الصهاينة، وليس الطريقة الوحيدة، فخلال الأحداث الحالية، قام مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للإعلام العربي، أوفير غندلمان، بمشاركة مقطع فيديو على حسابه في تويتر، حصل على أكثر من 300 ألف مشاهدة، يظهر ما يقول إنه “دليل قاطع” على إطلاق حركة حماس صواريخ من قلب مناطق سكنية، ليتبين أن الفيديو هو في الحقيقة من عام 2018 ويظهر قصف صاروخي نفذه النظام السوري في درعا. غندلمان قام بحذف الفيديو بعد أن أضاف له “تويتر” علامة تحذر من زيفه.

لم يقف غندلمان عند ذلك، بل قام بمشاركة فيديو آخر من حساب غير معروف في “تيك توك”، يقول إنه لفلسطينيين في غزة يفبركون إصاباتهم بالقصف الإسرائيلي، ليتبين أنه ليس للأحداث الحالية، ويعود تاريخ نشره الأصلي إلى مارس، ويُعتقد أنه لأردنيين كانوا يحاولون كسر الإغلاق العام بسبب فيروس كورونا في الأردن من خلال تزييف إصابة أحدهم. الناشر الأصلي على “تيك توك” يكتب أنه مقيم في مدينة الناصرة، ولم ينشر أي شيء يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني من قبل.

وجدت صحيفة “نيويورك تايمز” أن هناك عدداً من حملات التضليل الموجهة ضد فلسطينيي الداخل، من خلال مقاطع صوتية ونصوص باللغة العبرية تم نشرها في عدد من المجموعات الإسرائيلية على تطبيقي “واتساب” و”تليغرام”، تحذر مما أسمته “قطعان الفلسطينيين القادمين للقضاء عليكم”. وتقول الرسالة بالعبرية: “الفلسطينيون قادمون. أيها الآباء احموا أطفالكم!”

في عام 2019، قامت إسرائيل بتزييف إصابة جنودها بقصف صاروخي من منظمة “حزب الله”، وسمحت بنشر فيديو “مفبرك” يظهر نقلهم بمروحية عسكرية إلى أحد المشافي الإسرائيلية. طبعاً الفيديو تناقلته وسائل الإعلام العربية والدولية، ليتضح فيما بعد أنها كانت خدعة لإيهام حزب الله بأنه حقق خسائر في صفوف الإسرائيليين، وبالتالي سيكون أكثر ميلاً للموافقة على تهدئة.

كل ذلك يحدث بالتزامن مع تحرك مسؤولين إسرائيليين، مثل نتنياهو ووزير دفاعه بيني غانتس، اللذان تحدثا مع مسؤولين في “فيسبوك” و”تويتر” و”إنستغرام”، وطالبوهم بحذف المحتوى الفلسطيني المتعلق بالأحداث الحالية، ووصمه بأنه معادٍ للسامية أو محرض على إسرائيل.

بالفعل، اشتكى مئات النشطاء الفلسطينيين والعرب من حذف محتواهم أو إيقافهم مؤقتاً من منصات فيسبوك وإنستغرام بعد نشرهم محتوى عن الحرب في غزة أو التهجير القسري في حي الشيخ جراح.

وهناك أخبار مزيفة وصور مفبركة أو قديمة على الجانب المناصر للفلسطينيين، ولكنها تبقى حالات فردية، ولم تصل إلى حد مشاركتها من قبل حسابات لمسؤولين رفيعي المستوى، أو استخدامها في الإعلام الدولي كجزء من تكتيك المعارك لتحقيق أكبر قدر من الخسائر البشرية لدى الطرف الآخر.

ما فعلته إسرائيل مؤخراً وتّر بشكل أكبر علاقاتها مع وسائل الإعلام الدولية، التي لطالما نقلت عن المسؤولين العسكريين دون نقاش أو تحرّي دقة. ولكنها الآن ستعمد إلى فحص أي تصريح يصدر من أولئك المسؤولين والتأكد منه عبر مصادر أخرى، قبل المجازفة بنشره والتحول مجدداً إلى “سلاح” آخر في الترسانة.

Exit mobile version