خلال العقد الأسود:
خلال العقد الأسود المنصرم الذي مر على ليبيا.. توالت النكبات والخيبات على البلاد، وأصبحت مسرحا مفتوحا للنزاعات بالوكالة، كما كانت أرضا خصبة لاستقبال واحتضان المليشيات والعناصر الإرهابية كالقاعدة والإخوان المسلمين والجماعة الليبية المقاتلة وأخيرا تنظيم الدولة.
إسقاط الدولة، واستمرار النزاعات على السلطة، وانتشار السلاح، وغياب القانون في ليبيا، تزامن مع الضربات الموجعة التي تلقاها تنظيم الدولة في سوريا والعراق، فسعى لتغيير استراتيجيته وبحث عن أرض أخرى يتمكن فيها من جمع صفوفه وتكوين دولته المزعومة.
كانت ليبيا الحاضن الأمين للتنظيم الإرهابي وقياداته وعناصره التي توافدت تباعا إلى ليبيا، حتى أعلن عن تأسيس فرعه الليبي في المنطقة الشرقية في 13 نوفمبر 2014، حيث تمكن حينها من السيطرة على أجزاء من مدينتي بنغازي ودرنة، وبدأت عملية التوسع بهدف الوصول إلى مزيد من مصادر الدخل من خلال السيطرة على منابع النفط.
وتمكن في مايو 2017 من إيجاد موطئ قدم راسخ له في المنطقة الوسطى في المنطقة الممتدة غرباً من بني وليد التي سيطر عليها جزئياً إلي بو قرين وكامل ساحل ومدينة سرت حتى قرية النوفلية شرقا، ثم تواجدت خلايا له في صبراته والعجيلات وغيرها من المدن غرب ليبيا.
لم يغفل تنظيم الدولة أهمية التواجد في الجنوب، حيث منابع النفط ومصادر المياه المغذية للبلاد، فكون ثلاث مجموعات منفصلة لتنظيم الدولة متمركزة في أجزاء مختلفة من الجنوب، حيث تمركزت إحداها بالقرب من حقلي المبروك و زلة النفطيين على حافة حوض سرت ، وهو موطن الجزء الأكبر من إنتاج النفط الليبي، أما المجموعة الثانية فتعمل في محيط منطقة قرزة الاثرية قرب بني وليد، وتمركزت الثالثة في العوينات، بالقرب من الحدود مع الجزائر ، حيث لدى تنظيم الدولة الإسلامية وجماعات أخرى ، بما في ذلك القاعدة ، خطوط إمداد تعبر إلى تشاد والنيجر.
بذلك انتشرت خلايا التنظيم وتمركزاته في كامل ليبيا تقريبا شرقا وغربا وجنوبا وإن تفاوتت درجة سيطرته على المناطق، إلا أنه تواجده كان علنيا، ومخططاته كانت تهدف لاستغلال النفط الليبي كجزء من موارد التنظيم الاقتصادي المسلح.
بدأ تنظيم الدولة في تنفيذ أولى خطوات مخططاته للسيطرة على النفط في 2014 من خلال شن هجمات محدودة على الموانئ والحقول النفطية، ولكن أكبر هجماته شنها في 2015، ففي فبراير من ذلك العام هاجمت عناصر تنظيم الدولة العديد من حقول النفط، واختطفت ما لا يقل عن سبعة مواطنين أجانب. وقاموا بعمليات مماثلة بعد شهر ، عندما هاجموا حقلين نفطيين وألحقوا أضرارًا بخطي أنابيب نفط ينقلان النفط من الحقول إلى ميناء السدرة النفطي ، مما أوقف نقل إمدادات النفط إلى الميناء، ثم وقع هجوم اخر في 6 مارس 2015 ، هاجم فيه متشددو التنظيم الإرهابي حقل الغاني النفطي ، وقتلوا 11 من حرس المنشآت ، واختطفوا سبعة عمال أجانب.
أدت هذه الهجمات والعديد من هجمات تنظيم الدولة الأخرى إلى إغلاق ما لا يقل عن 11 حقلاً نفطياً ، ووقف إمدادات النفط ، والاستيلاء على عدد من الرهائن من قبل التنظيم، وبذلك تمكن المتشددون من إعلان السيطرة على قرية قرية النوفلية ، التي تبعد 50 كيلومترًا فقط عن ميناء السدره النفطي ، وهو الاكبر لصادرات ليبيا النفطية في يونيو 2015.
في الوقت نفسه، تمكن تنظيم الدولة من السيطرة الكاملة على مدينة سرت ومنطقة هراوة الساحلية، التي تقع في موقع استراتيجي بين سرت وميناء السدرة كنقطة على الطريق السريع الساحلي وسط ليبيا، وهو ما مهد لعناصره الطريق للتوجه مباشرة نحو الهلال النفطي الليبي، الذي يمثل القيمة الاستراتيجية، والذي يمثل في حال السيطرة على الوصول إلى ما يصل إلى حوالي 80٪ من احتياطيات النفط الليبية، خاصة وأن مدينة سرت أصبحت مقرا إداريا له.
لذلك واصل التنظيم جهوده وهجماته حيث شن تنظيم الدولة في 6 يناير 2016 ، ثلاث هجمات على اثنين من أكبر موانئ النفط وهما رأس لانوف والسدرة، واللذان تبلغ طاقتهما التصديرية 550 ألف برميل يوميا، تسببت هذه العملية في أضرار أكبر من الهجمات السابقة، حيث أشعلت النيران في خمسة صوامع نفطية في ميناء السدرة، ودُمر خزانان للنفط في ميناء رأس لانوف المجهز بالبنية التحتية اللازمة لتكرير وتصدير النفط، كما تم تدمير 850.000 برميل من النفط المخزن.
وفي مطلع أبريل 2016، قُتل خمسة من عناصر حرس المنشآت النفطية في هجوم شنه تنظيم الدولة الإسلامية بالقرب من حقل البيضاء، الذي يقع على بعد 250 كم جنوب السدرة ورأس لانوف.
بعد هذه العمليات المتكررة أعلنت قوات الكرامة إطلاق عملية القرضابية 2 لتحرير سرت من تنظيم الدولة، وأعدت قواتها جيدا في قاعدة البمبة شرق مدينة درنة وكان مسارها واضح بقطع الطريق وطرق التواصل بين مركز داعش في سرت والحقول النفطية جنوبها، وأيضا قطع التواصل بين قيادة داعش في سرت ونقاط داعش الصحراوية.
بالتزامن مع ذلك كانت فرنسا تراقب مدى توسع التنظيم الإرهابي في ليبيا ومدى سعيه للوصول إلى المخزون النفطي بالتوازي مع النشاط الكبير في الجنوب الليبي لنقل المقاتلين من التنظيمات الجهادية التي بايعت بخلافة البغدادي من مالي والنيجر وحتى من سوريا والعراق وتونس إلى سرت وقرزة والهاروج، تمهيدا للوصول إلى الهلال النفطي .
أدركت قيادات تنظيم الدولة الفخ الذي قد تقع فيه في حال حاولت الاقتراب من الهلال النفطي، فاتجهت غربا وشنت عمليات عسكرية في السدادة قرب مصراتة، وذلك لأن ميلشياتها غير منظمة وتعادي قوات الكرامة وبالتالي سيكون من السهل السيطرة عليها ومن ثم الدخول إلى مصراته وبذلك تتمكن من السيطرة على ثالث أكبر مدينة في ليبيا، وفي الوقت نفسه سينشط في المنطقة الفاصلة بين قوات الكرامة ومليشيات حكومتي الانقاذ والوفاق مستغلا الانقسام السياسي والاداري.
أدركت مليشيات مصراته الخطر المحدق بها، وكانت سرت مثال واضح على الدمار والخراب الذي قد يلحق بالمدينة وأهلها، فأعلنت إطلاق عملية البنيان المرصوص، وتمكنت بعناصرها الغير مدربة وبالاستعانة بطيارين واطقم فنية (مرتزقة) من تفعيل بعض طائرات سلاح الجو في الكلية الجوية مصراتة، وبدأت في مواجهة عنيفة مع عناصر التنظيم، ثم تلقت دعما جويا كبيرا من قوات الافريكوم، وذلك سعيا لإفشال مخطط التنظيم في اتخاذ ليبيا موطئ قدم له للانطلاق إلى شمال افريقيا وصحرائها وإعادة بلورة حلم تنظيم الدولة الذي كان حينها قد شارف على الانتهاء في العراق وسوريا.
وعلى الرغم من تحرير سرت في ديسمبر 2016، وتفرق خلايا التنظيم في عدة مناطق، إلا أن آثاره لازالت موجودة، حيث عادت هجمات تنظيم الدولة على المنشآت الحيوية والنفطية في بداية عام 2017 بهدف الحاق الضرر وضرب الاستقرار، وفي 10 فبراير من العام نفسه استهدف التنظيم خطوط أنابيب النهر الصناعي، كما دمر أكثر من 150 كم من أبراج نقل الكهرباء في الجنوب بين الجفرة وسبها، ما أدى إلى تفاقم انقطاع التيار الكهربائي.
لم ينتهي تواجد تنظيم الدولة الإرهابي في ليبيا، حيث أن تأكيدات لشهود عيان أفادت بظهور عناصر من التنظيم الإرهابي يرفعون العلم الأسود في منطقة العمامرة بمسلاتة والعجيلات في نوفمبر الماضي، وكذلك مهاجمته بوابة الفقهاء بالجفرة في سبتمبر الماضي، إضافة إلى الاشتباكات التي وقعت مع عناصره في سبها خلال الشهر ذاته،
يدعم ذلك العديد من التقارير التي تشير إلى وجوده في ليبيا، حيث أكد تقرير البنتاغون الربع سنوي الصادر في سبتمبر الماضي، حول عمليات مكافحة الإرهاب، المُقدم إلى الكونجرس استئناف تنظيم داعش الإرهابي لعملياته في ليبيا.
كما أكد تقرير صدر حديثا لمؤسسة سلفيوم للدراسات والأبحاث أن تنظيم الدولة يحاول الآن اعادة بناء نفسه ككيان اقتصادي مسلح في مالي والنيجر ليعيد الكره مجددا نحو الجنوب الليبي، مستفيدا من التواجد التركي بعد ان نضبت بشكل كبير موارده والتي اجبرته اخيرا على ايجاد موارد بديلة من تجارة الهجرة والرقيق الأبيض.
ستظل المخاوف من تكرر جحيم تنظيم الدولة في ليبيا قائما مادامت الدولة غائبة، ومادامت مؤسساتها منهارة كما هي منذ 10 سنوات.