عقد أسود مر على تاورغاء أهلها.. ذاقوا خلاله مرارات الألم والفقد والتهجير والسجن والقتل والاغتراب.. عشر سنوات لم تكن كافية في نظر المليشيات لوقف الاضطهاد لأبناء المدينة.
مأساة بدأت في 2011، حيث اقتحمت مليشيات مصراته مدينة تاورغاء، وعاثوا فيها فسادا وتدميرا وتخريبا، استخدموا الأسلحة الثقيلة في القصف العشوائي فقتل المئات، ودمرت كل المنازل.
أجبر أكثر من 40 ألف مواطن من أهالي تاورغاء على النزوح، حتى أصبحت المدينة خاوية على عروشها، لا تدب فيها الحياة، لا بشر ولا طير ولا ضرع ولا زرع.. ولكن قصة نزوح هؤلاء مأساة في حد ذاتها.. ففيها ذاق أبناء المدينة الأمرين.. حيث اضطر بعضهم للسير على الأقدام 70 كيلوا متر بعد أن تقطعت بهم السبل، وآخرون افترشوا لأيام الأرض والتحفوا السماء في انتظار أي معين ينقلهم لمكان يستر عوراتهم، ويحمي نساءهم وأطفالهم وشيوخهم ومرضاهم.. ولكن لم يكن أمامهم سوى فوهات البنادق والرشاشات.
فروا من بيوت لم يكونوا يملكون فيها أبسط مقومات الحياة، حتى الماء، لدرجة أن بعضهم مات عطشا في الصحاري التي سلكوها هربا من المدافع، في هذه الرحلة العصيبة أسر تفرقت وتشتت، وأبناء فقدوا وأطفال ضاعوا، ورجال ونساء ماتوا.
وبعد معاناة نجا منها من نجا.. وصلوا إلى مخيمات توزعت في عدة مدن بين شرق البلاد وغربها.. تلك المخيمات لم تعدوا كونها بيوت صفيح، لا تصلح إلا أن تكون حظائر للبهائم خاصة في فصل الصيف.
في تلك المخيمات لم تتوفر أدنى سبل الحياة، إلا من إمكانيات بسيطة وفرها أهل الخير من المناطق والمدن التي أقيمت فيها المخيمات، ناهيك عن الرعاية الصحية المنعدمة، والمرتبات التي توقف تسييلها لأبناء المدينة.
لم يتوقف الاضطهاد عند هذا الحد، فغير مرة واجه هؤلاء النازحين الهجوم والاقتحام والضرب والاعتقال من مليشيات عديدة، ولم يستثنى من ذلك الأطفال الذين لم يبلغوا حتى سن الرشد والحساب في القانون، حتى بات الزائر لتلك المخيمات لا يجد فيها إلا الكهول المرضى من الرجال والأطفال الصغار الذين لم يبلغوا الحلم والنساء.
مرت أعوام وأعوام حتى انطلقت برعاية أممية محادثات ومحاولات مصالحة بين تاورغاء ومصراته في 2015، واستمرت لعامين، حتى تم الاتفاق في 2018 على عودة المشردين والنازحين.. وعد ظنه الكثيرون سيجد طريقه للتنفيذ فجمعوا ما تبقى من شتاتهم في بقاع ليبيا، وتوجهوا لمدينتهم ومسقط رأسهم، ولكن تم إيقافهم في بني وليد.
مليشيات مصراته استوقفت الأهالي العائدين ومنعتهم من الدخول لأرضهم، فلجأوا للخيام للاحتماء فيها من المطر والرياح التي اقتلعت أعمدتها مرات ومرات.. وبعد أشهر ثلاث فتحت المدينة الخربة لأبنائها، ولكن أين يمكن أن يسكنوا وبيوتهم مدمرة، والألغام تنتشر في كل بقعة فيها، ناهيك عن مصبات المياه السوداء التي اتخذت من المدينة مكانا لها، إضافة إلى تحويل المدينة لمكب قمامة كبير.
وبعد معاناة طويلة بدأت معالم الحياة تعود شيئا فشيئا للمدينة.. عادت العملية التعليمة لأطفال المدينة بعد حرمان دام لسنوات، ولكن لم تعد الأوضاع لسابق عهدها في 2011، حيث أن الكثير من أبناء المدينة لازالوا مهجرين، ولا يرغبون في العودة بسبب البنى التحتية المدمرة ولا يستطيع بعضهم الآخر العودة بسبب تعنت مليشيات مصراتة.
ولكن تستمر الدعوات للعودة لتلك المدينة.. ويقول الأهالي..
ارجع لوطنك يا بعيد.. عمرت وطن الناس وطنك خالي